ضرب السائق على المقود بايقاع ينبض حيوية مرددا الاغنية وعاد الجنود الى صفيره، اما انا فقد تذكرت كلام الجندي عن الاسفلت وحفزني كلام السائق على ان اتخيل الاسفلت كما لو كان وشاحا اسودا تدفعه عجلات السيارة نحو الخلف حيث المدن البعيدة واخذ يومي براسه بمرح وذلك يعني اني كنت بارعا في غنائها صفر الجنود معي وضرب السائق على المقود قائلا:
-انكم تبلون حسنا، شعور رائع، هل تعلمون ماذا يحدث لو ان الحرب قد ماتت؟
-بالطبع سنحمل جثمانها لسنين عدة
-سادفن الحرب بموتي
-اما انا فسادفنها في شعر امراة
-خير لك ان تدفنها في رأس صبي
ارتسمت على وجه السائق علامات القلق وصار كما لو كان يريد الكلام بشيء ما حتى ايقاع اغنيته هو الاخر صار قلقا واصبح من الصعوبة التوافق مع ميزانه الا ان القلق بدا يتسرب الينا جميعا وعم الصمت بيننا قطع السائق اغنيته وقال: الجنود يتساقطون والحرب تتخذ من اجسادهم مكانا هادئا لسباتها كانت احلامهم تغادر دون رجعة فلم يعد لهم مكان لا شيء في اجسادهم سوى حرب نائمة واذا ما ايقظها احد ما فعليه ان يجد لاحلامه مكانا ما حتى وان كان ذلك المكان سحابة كالتي رايناها، الا تعتقد انه مكان رائع لاحلامنا في زمن الحرب الكثير من الجنود كانوا يطبعون احلامهم على وجنات صبيانهم، في لحظات الوداع، لذلك ترى الجنود يتظاهرون باللامبالاة حرصا على احلامهم من دموع صبيانهم التي تحولها الى سحابة.
واين تركت احلامك؟
سالت السائق الا انه لم يكترث لسؤالي وعاد الى اغنيته من جديد وفضلت الصمت كالجنود الاخرين وبقينا على هذا الحال طيلة ما يقارب الاربعة اميال.
قطع السائق صمتنا راسما على وجهه ملامح اقرب الى ان تكون الى السخرية سرعان ما اختفت قائلا:
-لاحدهم الدم وللاخر الحذاء عندما اقترب من الحذاء ترتعد الاحلام فهي لم تغادر مكانها بعد ربما تفضل هذا المكان كذلك الدم!!
كنت رائعا في اداء الاغنية الا ترددها من جديد؟ سالني السائق هذا السؤال الا انني لم افعل ذلك فبادر احد الجنود لترديدها وانضم اليه بقية الجنود ما حدث ان اداء الجنود لم يكن مرحا كما كان في باديء الامر وطغت عليه بعض النارية والسرعة، الامر الذي دفع بالسائق الى ترديدها بالاسلوب نفسه اما انا فقد فضلت الصمت شاردا ببصري نحو الافق البعيد في اثناء ذلك سالت السائق ماذا لو لم تشبه بالسحابة الجبنة او الحرب او العجوز.
-فقال: لك الحق ان تشبهها بما تشاء
قال احد الجنود: ذلك مرهون في الزمن
وقال اخر- ان تشبهها بما تشاء فذلك يعني اننا في زمن الحرب.
وبينما كنا نتحدث شاهدنا السحب في الافق من جديد فصرخ السائق باغنيته وراح يتراقص صمت فجاة وقال بصوت مخفف
-علينا ان نشبهها تشبيها واحدا قد توافق تخيلاتنا
-انها تشبه الحرب فقال احد الجنود
– بل انها كطير ابيض
وقال الاخر- انها مكان لجمع الاحلام
اما الجندي الاخر فقد فضل الصمت
نظر السائق نحوي وهو بانتظار ما ساقوله وسبقني بالكلام قائلا:
-لك ان تشببها بما تشاء
ادركت ان جسدي الذي لا يشير نحو السحب لا يوازي اشارة روحي لها، كذلك الجنود، كذلك هو الحال لو كانت الاشارة نحو الحرب او اي شيء اخرـ، ان حركات روح السائق هي غيرها التي اراها بادية على جسده ولو كشف لي عن سره لكانت السحابة تشبه الدم، اغنية للحرب كالتي يغنيها او هي احدى المحفزات الخارجية التي حدثني عنها او قد يتعدى الامر ذلك، عدت الى صفيري كذلك الجنود اما السائق فقد عاود الغناء، كنت امهد للدخول في الحركة الثالثة من سمفونية بتهوفن التاسعة، لانني كنت واثقا من ذاكرتي لانها كانت تسعفني لو تلكات في احد المقاطع الموسيقية، وعندما حدث ذلك ادر كت ان صفيري لا يوازي ما تحويه هذه الحركة من دلالات موسيقية وكنت في عجالة من امري رغبة مني للوصول الى الحركة الاخيرة الكورالية (حيث الفرح) والسعادة والتضرعات الانسانية، والدعوات لان يكون البشر اخوه في اثناء ذلك بانت في الافق ثكنة عسكرية غير واضحة المعالم سوى ابراج عالية مما لا شك فيه انها ابراج مراقبة ادركت في الحال ان هذه الثكنة ستكون المحطة الاخيرة لنا كذلك هي المرة الاخيرة التي استمع فيها الى اغنية السائق فجاة ردد السائق اغنيته وبايقاع سريع ناري ضاربا بكفيه على المقود ثم توقف عن الغناء قائلا:
-هناك في تلك الابراج.. اغاني كثيرة.. وخلف تلك الكثبان الرملية أغاني سريعة مرحة.. إن كانت أغنيتي هذه تروق لكم إن تغنوها في المكان الذي ترونه مناسبا.
اصوات القنابل لا تمنعكم من ذلك.. اما اذا عمّ الهدوء فخير ما تفعلوه هو الغناء بصوت منخفض وهذا ما يجعل أحلامكم تدور في رقعة صغيرة لا تتجاوز قبعاتكم العسكرية.
ينبغي ان اعود الى اغنيتي فهي ستكون رفيقي في اثناء طريق العودة ما هي إلا لحظات حتى وصلنا الثكنة العسكرية توقف السائق عن أغنيته ظل صامتا حتى اوقف السيارة.
وضعنا اقدامنا على الارض وبقي السائق في صمته وهو يضرب بانامله المقود اقتربت منه وقلت له:
-اغنية رائعة
لم يجبني السائق وبدا هادئا الا من أنامله وسرعان ما أدار المحرك واستدار بسيارته دورة كاملة ثم توقف وقال:
-السحب قادمة لك ان تشبهها ما تشاء
وداعا
ابتعد السائق وابتعد معه صدى اغنيته فودعه الجنود بايديهم نظرت نحو حذائي فكان متربا فنظفته في الحال كذلك فعل الجنود وصارت احذيتنا اكثر لمعانا ومع اولى خطواتنا كانت السحابة الاولى قد مرت على عجل استدرت بكامل قامتي الى الخلف وانتابتني رغبة في الصياح.
-ان السحابة لا تشبه شيئا ما..
فاضل سالم