قصة قصيرة
أغنية للحرب
فاضل سالم
إلى الشاعر احمد عبد السادة
عندما تصل الحرب عالميتها.. دع أحلامك تغادر دون قيود فهي لن تذهب بعيدا..
في الطريق الى الحرب نحن الجنود الخمسة نصفر بافواهنا تصفيرا مرحا خفيف الظل ذلك ما نفعله كلما عمّ الصمت بيننا، في كل مرة اجد نفسي مرغما على التصفير بالحركة الثانية من سمفونية بتهوفن التاسعة الموسيقار الذي اقف باعجاب امام اعماله الموسيقية الرائعة وهذا ما جعله الموسيقار المفضل بالنسبة لي، فموسيقاه متحررة من كل القيود، اضافة الى الثورية والبطولة والالهام، بالمرح ذاته الذي كان يطغى على صفيرها كانت الحركة الثانية خفيفة الظل سريعة تتميز بطابعها الايقاعي وهذا ما يفعله بتهوفن في كل مرة يريد فيها الوصول الى غايته في كل سمفونية لذلك جاءت الحركة الرابعة لتمثل صرخة الانسانية بوجه الظلم والطغيان ولتصل الانسانية بتلك الصرخة الى الفرح اللامتناهي فرح (يضم شمل النازحين) كما يقول الشاعر (شيللر) الذي اختاره بتهوفن لحركته الرابعة الكورالية ولعل تهجين السمفونية بالصوت البشرى هو من اروع ثوراته الموسيقية فما اروع ان تسمع مجموعة المنشدين يتضرعون لان يكون البشر اخوة تحت قبة السماء الصافية، تصاعدت ذروة الفرح ابتداءا من الحركة الثانية ولا ادري ان كان صفيرنا سيقودنا نحو الفرح اللامتناهي وبماذا سيهجن هذا الصفير لو وصلنا النهاية.. على اية حالة وبينما كنا كذلك قال احد الجنود بايقاع غريب قاطعا صفيره.
-عد ايها الاسفلت الى الخلف، هناك حيث المدن التي تنتظرنا..
صمت الجندي فجاة وعاد الى صفيره شاردا ببصره حيث الافق البعيد كان كل شيء يثير اشجاننا حتى كلام الجندي هذا بل حتى القشة التي ترمي بها عجلات السيارة الى الخلف، كنا اذا صفرنا ننهي صفيرنا بصمت اما اذا تحدثنا فاننا نفعل ذلك بفوضوية ولم يكن لاحدنا صبر يكفيه حتى يكمل الاخر حديثه، تحدث الجنود عن محاولاتهم الصبيانية لكسب اكثر عدد من الفتيات بحركات قد تظهر الوسامة على حد اعتقادهم لذلك كانوا يصفرون بعد احاديثهم تصفيرا مغايرا لما تحدثوا به حتى ان السامع يتخيل ذلك التصفير كما لو كان لفتاة اسمها الحرب لابد من كسبها باي حركة كانت.
اما السائق فقد كان يتمتم باغنية لم يغيرها منذ بداية رحلتنا كما انها اغنية لم اسمعها من قبل لم تكن كلماتها واضحة تماما لانه كان يبهم بعضها، كان متشبثا بالمقود ولم يلتفت الى صفيرنا الا انه عندما سمعنا نتحدث عن الفتيات قطع اغنيته قائلا:
-الا تعتقدون معي ان للحرب فترة مراهقة لذلك تبدو كفتاة لعوب تعشق اجسادنا، وبتعبير ادق انها كفتاة هلوك، اما عن حركاتكم هذه وصفيركم فهذا ما لا يخفى عنها تماما.
ضحك السائق بسخرية وسخر من كلامه فضحك بعد ذلك بسخرية اكثر فضحكنا معه ثم عاد الى اغنيته، اثناء ذلك قطعت ضحكته وسالته عن ما اذا كان قد جرب الحب فاجابني بسخرية الحب في زمن الحرب ام في غيرها؟ عليك ان تعلم ان الحرب قد توقعك في شباكها كن حذرا فان لها عيونا جميلة تسحر من يراها.
ضرب السائق على المقود وعاد من جديد الى اغنيته اما انا فقد عدت لصفيري وبدات افكر بكلام السائق مستمتعا بمنظر السحب في الافق البعيد، تلك السحب اثارت في نفس السائق شيئا ما وبدا يضرب على المقود بعصبية قائلا:
-انظروا الى تلك السحابة مما لاشك فيه هو ذلك الشبه الكبير بينها وبين الجبنة الكبيرة.
لم نكترث بكلمات السائق حتى انه عاد الى اغنيته حينئذ سالني احد الجنود عمّا يقصده السائق بكلامه فقطعت صفيري وقلت:
-انه يبحث عن شيء، لا يعرفه وهذا يحصل في زمن الحرب الكل يعاني من ذلك، هل تعرف لماذا تصفر؟
وقال جندي اخر - حقا انها لسحابة جميلة.
ضحك السائق، وقال بنبرة لا تخلو من لحن اغنيته.
-سحابة تشبه الحرب، لا! انها كالعجوز بل عين الصواب هو انها تشبه الجبنة.
صمتنا جميعا وعاد السائق الى اغنيته ورددها طيلة عشرة اميال وكانت السحب قد انقشعت، صمتنا لم يرق للسائق فقال:
-الا تعودوا لصفيركم، لقد سامت صمتكم الا تعلمون ماذا تعني لي قيادة السيارة وانتم في صمتكم هذا؟
صفرنا في الحال فابتسم السائق وهو يردد اغنيته قطعها فجاة قائلا:
-ما رايكم ان نستبدل اللعبة انتم تغنون اغنيتي وانا اصفر صفيركم.
-حسنا قلنا له هذا وبدانا نغني اغنيته على نحو رتيب وبدا يصفر وكان صفيره متقطعا وكأنه يستجمع في ذاكرته لحنا ما وقال فجاه:
-انكم لا تؤدونها على نحو يبعث الارتياح على الرغم من توافقها مع عواطفكم، وان لم يرد فيها اسم الحرب ولا الموت ولا السلام انها مجرد اغنية للحرب ان نبضها يناسب قلوبكم، صمت السائق برهة ثم قال:
-يوما ما كنت امقت اولئك الشعراء الذين يستوحون اشعارهم من نهر او شجرة او من طائر جميل او فتاة، او من سحابة عابرة ذلك لكوني امقت المحفزات الخارجية التي تتحكم بدواخلنا، كنت اخشى ان اكون كذلك، وفي ظل الحرب حدث ما كنت اخشاه فصار كل شيء يعني لي شيئا ما النهر، الشجرة ، السحابة، كل شيء، حتى الطيور في الحرب تدور في دائرة ضيقة وهذا يعني ان مساحات هجرتها باتت ضئيلة لكثرة مساحات الحروب في الارض وما افهمه انها تغير مساراتها لو علمت بان البقعة التي امامها هي بقعة تدور فيها حرب، يوما ما وقفت قبالة حذاء عسكري تيبس عليه دم في الحرب يحق لنا التساؤل لمن الحذاء ولمن الدم لاحدهم الدم وللاخر الحذاء او لربما لهم الدم وله الحذاء، ونحن في زمن الحرب لابد ان يحدث هذا، قد تشبه السحابة الجبنة او لربما تشبه فتاة بالنسبة لكم وقد يتراءى لبعضهم انها تشبه رغيف خبز. كل ما اعنيه ان اغنيتي قد لا تروق لكم الا انها تعني لي اكثر مما تعتقدون.