العائد من المجهول
الشخصيات:
الأم: تجاوزت الخمسين من العمر بسنوات قليلة.
مهند: الابن تجاوز الرابعة والعشرون متخرج حديثاً من كلية الهندسة.
هناء: البنت الصغرى ، طالبة جامعية.
(تدخل هناء من باب جانبي لصالة بيت شرقي بسيط الا انه مرتب بشكل فني، توزعت مجموعة من الاريكات والكراسي على جانبي المسرح، ووضعت طاولة كبيرة وسط المسرح فوقها جهاز تلفزيون)
(تدخل هناء.. تضع كتبها فوق احدى الطاولات)
هناء: مهند .. مهند.
(يدخل مهند إلى الصالة)
مهند: اخفضي صوتك، الم اقل لك ان صراخك يشوش افكاري..
هناء: معذرة ايها الاخ الشاعر.. اذا كنت قد عكرت مزاجك.
مهند: الشاعر المهندس ..
هناء: مرحا.. يا مهندس الشعر..
مهند:ماذا تحملين في حقيبتك الاخبارية لهذا اليوم.
هناء:خبر خاص جداً.. مفرح جداً.
يحتاج إلى كثير من المقدمات.
مهند: وانا.. كما تعلمين.. اكره المقدمات، والدخول في الموضوع مباشرة يحتاج إلى جرأة.. وما اعرفه عنك يا اختي جريئة.. إلى الحد الذي يصل لان تلكمي انفي اذا استدعت الضرورة النفسية عندما يحتدم النقاش فيما بيننا.
هناء: الا في هذا الامر، ساكون وديعة.. ورومانسية ومتفهمة.
مهند: اجلسي اذن.
هناء: لا.. تجلس انت اولاً.. انت الاخ الاكبر ..
مهند: يا للتواضع والاخلاق العالية.. لابد انك تحملين موضوعاً يصعب حلّه.
هناء: في يديك هذه المره.. الحلّ.. والشد.
مهند: وانتِ..
هناء: انا…انتظر منك الرأي والمشوره
مهند: نزلت عليك الطاعة والسكينة مرة واحدة. حسناً اجلس…وانت ايضاً اجلسي واحكي لي بالتفصيل.
هناء: (بخجل مصطنع)
لا يوجد تفاصيل في هذا الموضوع..كل ما في الأمر..ان..
مهند: ها..قولي..لماذا سكت..
هناء: استحي.
مهند: كلنا..نستحي والحمد لله.
هناء: كنت قد حدثت امي ليلة البارحة.
مهند: وامي لم تحدثني عن شيء..
هناء: امي..اقترحت ان احدثك بالموضوع مباشرة.
مهند: وأنا كلي اذان صاغية.
هناء: انا محرجة جداً.
مهند: نحن يا هناء..اصدقاء..نعم انا اكبر منك بسنة واحدة.. ولكننا.. اصدقاء..قبل ان نكون اخوه..هكذا اتفقنا..منذ ان ادركنا..اننا بلا اب.
هناء: نحن الان في هذا الموضوع بالذات بحاجة الى اب.
مهند: ما الذي ذكرك في هذا الموضوع..
هناء: هناك امور اجتماعية لا يحلها الا الاباء.
مهند: مثلاً.
هناء: موضوع الزواج مثلاً.
مهند اكتشفت الامر..دون ان تدخلي في التفاصيل، شخص ما..يريد ان يتقدم لخطبتك.
هناء: (تومي برأسها موافقة)
مهند: زميل جامعي..؟
هناء: معيد في الجامعة.
مهند: قصة عاطفية..!
هناء: عاطفة ناضجة..بدون تفصيلات رومانسية، دخول الى مؤسسة الزواج مباشرة.
مهند: اعرفه.
هناء: هو يعرفك..وانت التقيته يوم زرتني الى الكلية.
مهند: الشاب ذو النظارة.
هناء: جدي وطموح..ويحضر للدكتوراه.
مهند: تحبيه.
هناء: (تصمت).
مهند: الم نقل اننا اصدقاء.
هناء: يريد ان يتقدم إلى خطبتي.
مهند: ماذا كان ردك.
هناء: فكرت بان تذهب إلى عمي وتستشيره في الامر.
مهند: عمي.. انه منقطع عنا.. من سنين.. حتى اني لا اعرف عنوانه.
هناء: أمي تعرف عنوانه.
مهند: أمي موافقه على موضوع استدعاءه لمثل هذه المناسبة.
هناء: نعم.
مهند: وانا غير موافق..انا قادر على ان اقوم بهذه المهمة.
هناء: ولكنها..
مهند: بدأتي تفكرين بطريقة كلاسيكية. وانا ارفض الكلاسيكيات. وغير موافق على ان يدير شؤونها شخص آخر..حتى لو كان عمنا.
هناء: ماذا تقترح؟
(تدخل الام)
الأم: اقترح ان تسمعوا رأيي..او ان خصوصياتكم لا تهمني.
مهند: بالعكس فانت الصديق الثالث..لك الراي الاول والاخير.
الأم: قبل كل شيء..اريد ان افتح معكم موضوع.
اشعر ان الوقت المناسب قد حان لاناقشه معكم.
هناء: ونحن على استعداد تام للاستماع اليك.
الأم: ماذا لو وجهنا الدعوة الى ابيكما ليحضر..فهذه مناسبة تستوجب حضور الآباء..
مهند: امي..هل انت مدركه لما تقولين..
الأم: ادرك تماماً ما اقول..
مهند: الاب الذي ترك اولاده صغاراً يحبون..من اجل نزوة عابرة.
الأم: هرب من قبضة الموت، الغربة..اطبقت على خناقه..فكان بحاجة الى شخص قريب منه.
هناء: من امرأة لا تشبهك..لا تحمل طيبتك امرأة من بلد غريب..امرأة بلا جذور.
الأم: الرجل عندما يعشق..يفكر بالمرأة من دون انتماء.
مهند: ما سر دفاعك عنه..
الأم: لاني اعرف كيف يفكر..
هناء: بعد كل هذه القطيعة.
الأم: لم ينقطع عني طيلة فترة غربته…
مهند: كيف.
الأم: كان يبعث لي برسائل..باستمرار..ومبالغ معيشتكم.
هناء: ولم تطلعينا على واحده منها..
الأم: لانكم كنتم صغار..واخاف عليكم من بطشهم.
مهند: وعندما كبرنا.
الأم: صار الموضوع يخصني وحدي..كنت اكتب له عن كل تفاصيل حياتنا..وعنكم بالذات عن كل واحد منكم، شكله تصرفاته، بعد سنوات من زواجه..هناك..كتب لي رسالة. يقول فيها:
(صوت الزوج)
-الى ام مهند وهناء الغالية:
وصلتني رسالتك الاخيرة، فرحت كثيراً بحصول مهند على شهادة الهندسة..ونجاح هناء في مرحلتها الجامعية..اثق كثيراً بك..وبهم..لانك ام مثالية استطاعت ان تأخذ كل الادوار، الاب والام والاخت..
اعيش الان فترة من اصعب فترات حياتي..
(صوت الزوج بنبره بكاء)
-اشتقت كثيراً..يدفعني الشوق الى نهر مدينتنا والى الوجوه الاليفة التي ما زالت..صورها منقوشة في ذاكرتي..صور من طيبة ونقاء وصدق..
افتقدته كثيراً..في عالم غريب وموحش.
حلمت بالعودة
الا ان اساليبهم القذرة من عدم عودتي والاكتفاء بما اكتبه اليك.. وتكتبينه لي..
ووفاء مني على عهد قطعته لك… ان ابقى حياً حتى نهايتهم ولم ادري ان الغربة تضعفني .. كانت قاسية ايام الوحدة والاقسى عندها لا تفهم هي لماذا انا غريب.
هناء لو كنت قرأت هذه الرسالة لكتبت له ان …
الأم: ما تكتبين له..
هناء: سأقول.. له تعال
مهند: عواطف امرأة… ابنة تنحاز لامها..
الام: كلا.. ابنة.. يمتد جذر شريانها.. ال مصب قلب ابيها.
مهند: اذن تتهموني بالقسوة.
الام: انت شاعر.. زمهندس .. شفاف ورقيق وحالم الا انك موضوعي لا تدخل القسوة ولا تطرق باب قلبك فأنا أم.. اعرف من هاجس دمي كيف يفكر الابناء.
مهند: وانا .. رجل.. اعرف كيف يفكر الرجال.. حيث تخذلهم امرأة، قصة حب ساذجة.. في بلاد غريبة.. شطبت على تاريخ نضاله... شطب على تاريخ عائله.. كان بالامكان ان يكون قريب منا.. بلا لوعات .. بلا .. معاناة.. كيف تحمل آلام الغربة .. هل كان يدري.. كيف كان يخفق اليه في السر.. في لحظات استذكار.. كانت .. موخزة في القلب..
هناء: لم احس طيلة حياتي هذا الالم المجبول في قلبك..
مهند: انا.. لا اكره احداً في هذا الكون.
الأم: انا مدركة تماماً لقد ربيتكم على المحبة، والطيبة، والنقاء.
الأم: (تظهر بعض الرسائل .. في صندوق.. تحمله)
الأم: هذا .. صندوق رسائله..
مهند: صندوق المحبة..
الأم: صندوق من ذكريات.. ايام كان لها طعم الشهد.. وطعم الحنظل..
هناء: اول.. رساله..
الأم: هذه اول رسالة. (تشمها) فيها رائحته كتبها لي في اول ايام زواجه.. قال فيها..
(تقرأ الزوجة الرسالة..)
صوت: لا اعرف كيف اكتب، أي الكلمات اختار لاصف هذا السيل المتدفق في اعماقي.. الجأ اليك محتمياً من صقيع هذا العالم. الذي يحاول ان يجمد عاطفتي.. اخترت الغربة..ولم.. ولن تختارني.. واخترت العيش بعيداً عنكم.. واخترت القرب اليكم. –انا – بينكم.. شوق اشتهيه.
الأم: لم تنتهي الرسالة..
مهند: تداعيات خاسرة.. لرجل غريب.
هناء: تداعيات اب في غربة.. في ارض قاحلة نواح كاذب الزواج على تلك الطريقة. ومن تقدم لي.. عليه ان يدرك ان العواطف.. لاتشترى.. وان الحياة يخطها .. من شمر عن ساعديه وحرث بالارض البور.. ورمى بذرة وسقاها.. وكي تزهر .. تلك الوردة.. عليه ان يستمر .. في ان يضخ الماء اليها.. وان جف ماء القلب، يسقيها بماء الروح..
مهند: اذن تتفقين معي.. لاتختلفي في موضوع النبض .. والاحساس.. الذي يشرئب من جذور القلب.. إلى الوجدان، ما ان.. طرق باب احساسك كامرأة .. انتفضت كنمرة جريحة..
ماذا لو ان خطيبك.. قرر ان يهجر..؟
الأم: لم يهجرني.. اختار الحياة من اجلكم.. حين اختار الغربة .. كان الموت أو الغربة.
مهند: مسرحية ميلودرامية.. عيوننا لا تقطر دمعاً الا.. للمواقف الصادقة.
الأم: الصدق في ما اراد.. في ما كتبه في اول لحظات رحيله..
هناء: ماذا كتب..
الأم: اشياء كثيرة عن الغربة.. للوطن – للناس- للحرية.. وعن الغربة اشياء كثيرة.
مهند: هل تثقين به تماماً.
الأم: اثق.. بالكلمة.. بالوجدان.. بالنبض الذي يخترق الشريان.
هناء: تحبيه..
الأم: احب فيه انتماءه.. لنا.. حتى.. وان كانت كلمات.
مهند: وان طرق الباب..
هناء: تستقبليه..
الأم: الارض لا ترفض بذراها.. الارض.. تعشق.. الماء..
مهند: والنهر.. يا أمي..
الأم: النهر.. الوطن.. الانتماء.. لولا الانتماء.. لما هو في الغربة..
هناء: تريدينه ان يعود..
الأم: الابواب.. تفتح دوماً للطيبين..
مهند: طيبتك..
الأم: من طيبتي.. اغرس في هذه الارض فسائل حب.. فيها ازهار تورق.. ويفوح عطرها عطر.. يدخل في الصدور.. في المسامات.
هناء: تحبينه..
الأم: مثل محبتي اليكم.. وهو يحبكم مثل ما هاجر من اجله.
مهند: يعود..
(يطرق الباب)
(تخرج الام تتلقى برقية)
الأم: ها قد وصلت رسالته الاخيرة..
مهند: اقرأي الرسالة ... واتركي نبض الاحساس الينا..
الأم: (تقرأ الرسالة)
صوت الزوج: هذه رسالتي اليكم
ابنائي.. احبكم..
لي ... الغربة.
والوطن اليكم ..
محبتي
الأم: فيها.. اشياء لي..
هناء: اقرأي الاشياء التي تحمل في طياتها .. نبض احساسه الينا ..
الأم: يقول.. احب ابنائي..
مهند: لا يكفي..
الأم: يقول.. لمهند.. دمعة القلب..!
مهند: لا تكفي.
الأم: لهناء .. شغف القلب.. وروحي للوطن.
هناء: له.. في القلب نبض.. الابوة..
مهند: له.. في الروح شغف الروح اليه..
هناء: وانت .. يا امي..
الأم: له..
كل الانتظار..
نبض القلب.. شغف الروح... نقاء المودة..
مهند: يعود..
هناء: له في قلوبنا.. مأوى.
مهند: له في الروح مسكن.
الأم: لــه..
فــي..
قلبي دمعة .
(ستار)
*********