البالون الصغير
فاضل سالم
"لايستطيع مصمم الرقص البشري مجاراة الايقاع المتوازن لغصن متجه الى السماء تساءلت ان كانت العاطفة الجمالية للاشــكال السامية مؤلفة من فهم سام للخلق ولابد ان الانسان سيكتشف يوما الالفباء في عيون العقيق الابيض وفي اثار يتركها العث وسيعرف ان كل قوقعة عثر عليها كانت قصيدة"
اليخو كاربنتر (الخطوات الضائعة)
اللون الازرق لون ضعيف الوضوح يعمل على تهدئة الأعصاب في حالات الإجهاد الذهني والارق العصبي وهو لون يحمل على التفكير في المدى البعيد . هذا ماجال في خاطري وأنا انظر الى ثوب ازرق معلق على حبل غسيل فوق أعالي السطوح كان هذا قد حــصل وقت جلوسي على مصطبة قديمة وضعت لجلوس عابري السبيل وانا انظر للثوب استوحيت ترنيمة كانت ترددها جدتـي دائما لم اكن اعرف مغزى الترنيمة حينها لكنها تعني لي الان الكثير , اعادت لي الترنيمة اريج الماضـي كما اعاده لي اللــون الأزرق هو الآخر وكاني اشم رائحة جدتي وهي تردد امسح صدرك بجلد افـعى حينها سيـزول العشــق عنك رحمك الله ياجدتي كم تمنيـتك بقربـي هذه اللحظة لننظر الى اللون الازرق سوية . مر أمامي مجموعة أطفال مرحين مبتسمين يحملون بأيديهم بالونات بالوان جميلة الأمر الذي دفعني لرفع صوتي مرددا الترنيمة ضحكت لدعابتهم الطفولية , صرخ احدهم باعلى صوته ((سم الحية )) وهو يشير نـحو أحد الأطفال والذي كان يحمل بالونا ازرق اللون تبعة بقية الأطفال ثم صرخوا جميعا بصوت واحد (( سم الحية )) كم هو جـميل ان يكون البالون هوالرابطة التي تربطني بالماضي كذلك اللون الازرق , ان كل الذين تركتهم ورائي من أصدقاء واحبة ومن اقـمت مـعهم منذ اللحظة التي سمعتك فيها وانت ترددين هذه الترنيمة لم يكونوا قادرين على التحدث بلغة الطفولة , لغة من يفكر دون ماض لم يتجاوز الثلاثة او الاربــع سنين , كنت كمن يفيق من نومه بعد ان انتهت الترنيمة مر الأطفال سريعا دون ان اشـعر بذلك تاركين وراءهم بالونا يرتفع وهاهو في طريقه للوصول بمستوى الثوب الازرق .. آه ياجدتي ليس لي مفر من ان احكي لك ماجرى فلاشيء يفرحني غير ذلك تكلمنا بلـغة الطفولة كثيرا ورددنا ترنيمتك كثيرا وأينما كنا ، رغم ذلك فقد رددتها اليوم بصـوت عال وعلى مسامع المارة لشعوري بالوحدة بل لذلك الشعور المضني بتطبيقها اوبعدم تطبيقها ولم اكن اشعر بذلك لولا صدى كلماته الاخيرة بعد ان ردد الترنيمة كثيرا - آن الاوان لتفعل ذلك هيا ياصديقي امسح صدرك , كانت هذه أخر كلماته ياجدتي في ذلك اليوم الذي تلقت فيه وحدتنـا امرآ بإخلاء الموقع الذي كنا نتمركز فيه لم تحدد جهة الإخلاء لصعوبة الموقف اذ كانت القذائف تتساقط دون هوادة تاركة حفرآ كبـيرة في كل مكان ، الصعوبة الكبرى كانت تتمثل بمدفعيتنا التي كانت تقف وكانها تماثيل رخامية وسط دخان كثيف إذ يتطلب سحبها جهدآ بالغ التعقيد , كنت حينها اتحصن من موضع آمن بعيدآ نوعا ما عن المدافع رغم كل هذا فأني حاولت رفع رأسي قليلا ليـتسنى لي معرفة الجنود الاخرين اوعلى الأقل معرفة الناجين منهم لكن الدخان الكثيف حال دون ذلك فعدت الى وضعي الاول مســـتلقيآ على ظهري وبينما كنت كذلك سمعت صوتا ينادي – الى السماء ايها البالون , كان صوته ياجدتي لم يكن باستـطاعتي فعل شيء ألا تذكر ماقلتيه ذات مرة نم ايها البالون الصغير , بعد ذلك حاولت النهوض بحذر شديد وما ان اصبح رأسي بموازاة سطح الارض حتى أذهلني منظر بالون يصعد الى السماء لم أميز لونه لشدة كثافة الدخان ثم عاد صوته من جديد الى السماء أيها البالون, في تلك اللحــظة لم اكن قادرا على الوصول اليه الابالتجرد من كل ما املك من ماضي , نهضت من موضعي كمن لايملك من الماضي ســــوى ثلاثة سنين وناديت باعلى صوتي –لاعليك ايها البالون الصغير انا في طريقي اليك , ماهي الا لحظات حتى وصلت الموضــــع الذي كان يقي نفسه فيه خوفآ من القذائف عندما دخلت الموضع كان مستلقيآ على ظهره ضمني اليه بشدة ثم وضعته في حجري كان مبتـسمآ رغم مسيل الدم من فمه فحدثني بلهجة اعادت لي العاطفة التي نسيتها منذ بدء الحرب قائلآ – ارتفع ايها البالون هناك حيث الســـماء الصافية , ابتسم رغم الالم وقال سيمتلىء فمي بالمرارة ثم لبثنا صامتين ولم يدم هذا الصـمت طويلآ حتى رددت الترنيـــمة بنبرة حزينة ابتســم مرة اخرى قائلآ – ليس بمقدور أحد ازالة عشق البالونات عني حدثني ياصاحبي بلغة الطفولة قال هذا وقد ضـمني اليه بشــدة فقلت قبل أن يحل الظلام امتلأت السماء بالغربان ونعيقها وكان جميع سكان القرية مجتمعين عند عتبة داركم ســمعت أحدهم يقول الغربان رمز التشــأؤم وهو يشير بسباته نحو الغربان من كان يؤمن بقوله فقد أشار بسباته هو الاخر ومن لم يؤمـن فقد اكتفى بصمته محاولآ استذكار أحد رموز التشأؤم سألني وهو يبتسم وكم كان عمرنا حينها ؟ لاعليك يكفي اننا أطفالا قلـت له هذا ثم ان نســــــاء القرية قد تجمعن ايضآ في داركم وهن يصرخن بأعلى اصواتهن ميزت صوت والدتي من بين أصوات النسوة لعذوبته وصـــدقه .. كنت واقفآ بمسافة ليــست ببعيدة عندما أطلقت والدتي صرختها والتي أجبرتني على إمساك بعباءتها ثم ســــرت خلفها كالأعمى لان سواد العباءة كان يغطي وجهي لكني رغم ذلك كنت اعرف كل النساء عن طريق ماتحــمله عباءة كل واحدة من رائحة . يصـعب تصديق ذلك. رائحة التبغ كانت تفوح من عباءة جدتي , كانت الرائحة المميزة من بين الروائح اما والدتي فكانت عباءتها دون رائحة سوى رائحة لعاب فمي لانني كنـت اطبق اسناني بشدة على اطرافها جدتي ووالدتي لم تحملا معهما سوى تلك الرائحتين ..هذا اذا ماقارنتها ببــقية الروائح التي كانت تضـعها او تحملها كل امرأة